بدءًا من 6 حزيران الماضي، وعلى مدى أكثر من أربعة أشهر خاضت "قوّات سوريا الديمقراطية"(1) معارك عنيفة في الرقة بدعم من "التحالف الدَولي" بقيادة واشنطن، بهدف طرد إرهابيّي "داعش" من المدينة التي وُصفت بأنّها "عاصمة الخلافة" للدولة الإسلاميّة المَزعومة في سوريا والعراق. وفي الساعات الماضية إنطلقت المرحلة الخامسة والأخيرة من هُجوم قوّات "قسد" على ما تبقى من مُسلّحي "داعش" بعد خروج العديد من هؤلاء الإرهابيّين من المدينة بموجب إتفاقات محلّية بغطاء أمَميّ. وعلى خطّ مُواز، دخل رتل من الجيش التركي مدعومًا بوحدات من "الجيش السوري الحُرّ" إلى مُحافظة إدلب السوريّة عبر معبر "باب الهوى"، بالتنسيق مع تنظيم "هيئة تحرير الشام" المُعارض، وقامت الوحدات التركيّة بنشر مجموعة من نقاط المُراقبة العسكرية في المنطقة، وتحديدا ضُمن الحُدود الإداريّة لمُحافظتي حلب وإدلب. فماهي التوقّعات بالنسبة إلى مُستقبل سوريا في ضوء هذه التطوّرات؟.
لا شك أنّه مع طرد تنظيم "داعش" الإرهابي من معقله الأساسي في الرقّة، بالتزامن مع هزائمه الواسعة في العديد من المناطق السوريّة الأخرى، والتي تُضاف إلى هزائمه الكبرى في الموصل والعراق عُمومًا، تُطوى صفحة دَمويّة كتب أسطرها إرهابيّو "داعش" في سوريا والعراق في السنوات القليلة الماضية، وفي حين وضعت إيران عبر "الحشد الشعبي" يدها–من الناحيتين الأمنيّة والسياسيّة، على المناطق التي كان يحتلّها إرهابيّو "داعش" في العراق قبل هزيمتهم، تقاسم النظام السوري من جهة و"المُعارضة" المدعومة من الغرب من جهة أخرى، السيطرة على المناطق التي كان يحتلّها تنظيم "داعش" الإرهابيّ في سوريا(2). ولا شكّ أنّ سقوط الرقّة، أو ما كان يُعتبر "عاصمة الخلافة" للدولة الإسلامية المَزعومة في سوريا والعراق، يُمثّل ضربة قاسية جدًا لتنظيم "داعش" الذي يتسارع تقلّص نُفوذه، وتزداد خسائره المَيدانيّة، وتنحسر مساحة سيطرته الجُغرافيّة. وبحسب المعلومات المُتوفّرة فإنّ الكثير من الدول الغربيّة تُخطّط لأنّ تبقى الرقّة خارج نُفوذ النظام السوري، لتُشكّل منطقة قادرة على إستضافة فئات عدّة مُناهضة للنظام السوري، حتى في مرحلة ما بعد التوصّل لتسويات نهائية للحرب في سوريا. وعلى الرغم من أن لا مشاريع تقسيم في القريب العاجل، إلا أنّ مُجرّد فرض منطقة مُستقلّة بغطاء دَولي، يُمهّد الطريق لما هو أبعد من "الحُكم الذاتي" وأبعد من الفدراليّة عندما تحين الظروف، في تكرار لما حدث في "كردستان العراق". وحتى في حال فشل الدول الغربيّة المَعنيّة بالأزمة السُورية في فرض منطقة مُستقلة عن نُفوذ النظام السُوري بشكل مُستدام، فإنّ ملفّ الرقّة سيُستخدم من جانب هذه الدول في المُستقبل كورقة تفاوض قويّة بيدها. ولا شكّ أنّ النظام السوري الذي لا يزال حتى اليوم يدفع رواتب موظّفين سوريّين داخل الرقّة، سيُمارس ضُغوطًا كبيرة على العشائر العربيّة المحلّية، لحملها على مُعارضة قوات "قسد"، وسيُحاول العودة أمنيًا إلى المنطقة.
من جهة أخرى، لا شكّ أنّ دُخول وحدات كبيرة من الجيش التركي إلى مُحافظة إدلب في شمال غرب سوريا بهذا الشكل العلني يُشكّل تطوّرًا نوعيًا، ليس من ناحية التوازنات المَيدانية، بل من ناحية التوازنات السياسيّة. وأجمعت آراء العديد من الخُبراء الغربيّين المُتابعين للملفّ السوري، على أنّ دخول الجيش التركي برفقة مجموعات مُسلّحة مُوالية له، لا يُغيّر شيئًا في المُعادلة الميدانيّة القائمة في سوريا، حيث أنّ التأثير العسكري لهذا التدخّل محدود في الزمان والمكان. وأضافت أنّ أهمّيته تكمن بأنّه تمّ بموجب إتفاق بين تركيا وروسيا بعلم وبمُوافقة إيران، في ظلّ عجز كلّي للنظام السوري عن التأثير بهذه التسويات، حيث إكتفت دمشق بالإدانة وبمُطالبة الجيش التركي بالإنسحاب فورًا. ولعلّ الهدف الذي تلاقت عليه كل من تركيا وإيران من هذه العمليّة يتمثّل بالنسبة إلى أنقره في منع تمدّد "حزب الإتحاد الديمقراطي الكردي" على حدودها وقطع خطوط التواصل بين "وحدات حماية الشعب" الذراع العسكريّة لحزب "الإتحاد الديمقراطي الكردي". ويتمثّل بالنسبة إلى طهران في منع تحوّل منطقة "الحُكم الذاتي" الكُردي في سوريا حاليًا إلى منطقة مُستقلّة، والإستفادة من منطقة "خفض تصعيد" جديدة في سوريا، للتركيز على جبهات قتالية أخرى. وفي ما خصّ روسيا، فهي ومن خلال تدخّلها العسكري المُباشر في سوريا، ونُفوذها خلال جولات التفاوض في "آستانة"، وعلاقاتها المُتنامية مع مُختلف دول المنطقة، باتت تُمسك أكثر فأكثر بملفّ الأزمة السُوريّة.
في الخلاصة، الأكيد أنّ المرحلة الحالية في سوريا هي مرحلة الإمساك بأكبر عدد مُمكن من "أوراق التفاوض" قبل حُلول مرحلة التسويات النهائيّة، وكل من مُحافظة الرقّة وإدلب تُعتبر من "الأوراق المُهمّة" بالنسبة إلى الدول الإقليميّة والدَولية التي تتنافس على الأرض السُوريّة.
(1) معروفة إختصارًا بإسم "قسد" وهي عبارة عن تحالف يضمّ ميليشيات كرديّة بالدرجة الأولى، إضافة إلى ميليشيات عربيّة وسريانيّة وأرمنيّة وتركمانيّة.
(2) تقدّم الجيش السوري والقوى الداعمة له باتجاه الشرق في "دير الزور"، وسيطروا أيضًا على مناطق واسعة من البادية السورية، في أحدث معاركهم مع تنظيم "داعش".